ابعاد
تعهّدت هولندا والدنمارك بتزويد أوكرانيا بطائرات إف-16 الأمريكية، فهل تخلى الغرب أخيراً عن تردّده في تلك الخطوة خوفاً من مواجهة مباشرة مع روسيا؟ ومتى يمكن أن تصل المقاتلات إلى كييف فعلا؟
وكانت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن قد أعلنت قبل يومين موافقتها على تزويد أوكرانيا بالطائرات المتقدمة، والأحد 20 أغسطس/آب حصل الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي على “تعهّد” من هولندا والدنمارك بتزويد كييف بتلك الطائرات، والسؤال الآن: متى يمكن أن يتحقق ذلك؟
لماذا تحتاج أوكرانيا “إف-16” بشدة؟
قبل الوصول إلى محاولة الإجابة عن الإطار الزمني المتوقع لوصول طائرات إف-16 إلى أوكرانيا ومشاركتها الفعلية في المعارك الطاحنة الجارية حالياً على طول خط المواجهة، من المهم التوقف عند ما يمكن أن تحققه تلك المقاتلات في ساحة الحرب.
ففي هذا الإطار، نشرت شبكة CNN الأمريكية تحليلاً يرصد مدى أهمية المقاتلات من طراز إف-16 لأوكرانيا ولماذا ينتظرها الجيش الأوكراني على أحرّ من الجمر. ولعل عمق آثار الألغام وتواتر انفجاراتها عبر مدينة أوريخيف الأوكرانية على خط المواجهة مثالٌ صارخ على الحاجة الماسة لأوكرانيا لطائرات مقاتلة من طراز إف-16 بصورةٍ عاجلة.
فالقوات الأوكرانية المحتشدة في جميع أنحاء المدينة لديها مهمة شاقة تتمثل في شق الطريق عبر حقول الألغام نحو القوات الروسية التي تتوقع تقدم هذه القوات منذ فترة طويلة.
لكن أكبر عائق أمام الأوكران هو عائقٌ نادراً ما يُسمَع إلا بعد فوات الأوان. تطلق الطائرات الروسية قنابل نصف طن متري من بعيد -من خارج نطاق الدفاعات الجوية الأوكرانية- ثم تدمر المواقع الأوكرانية متى شاءت. في بعض الأحيان يُطلَق ما يصل إلى 20 قنبلة في بضع دقائق في أوريخيف.
صحيح أن أنظمة الرادار الأوكرانية توفر بعض التحذير، يمتزج مع الهدير القصير والمشؤوم لصاروخ قادم. لكن الهدف النهائي غالباً ما يُسحَق دون سابق إنذار.
لذلك عندما تقول أوكرانيا إنها بحاجة ماسّة إلى طائرات إف-16، فذلك لأن الجنود الأوكرانيين يُقتَلون يومياً بسبب التفوق الجوي الروسي.
هذه التفاصيل التي ساقتها الشبكة الأمريكية في تحليلها تمثل الوضع الحالي في ساحة الحرب، ليس فقط في أوريخيف، ولكن على طول خط الجبهة الممتد لأكثر من 1200 كلم شرق وجنوب أوكرانيا، حيث تشن كييف هجومها المضاد الكبير الهادف إلى استعادة الأراضي التي تقع تحت السيطرة الروسية.
لكن الهجوم الأوكراني، الذي تم التحضير له على مدى شهور طويلة وشهد تقديم الغرب بقيادة واشنطن كماً هائلاً من الأسلحة الثقيلة المتطورة والمقدرة بعشرات المليارات من الدولارات، لم يحقق حتى الآن تقدماً كبيراً وهو ما فتح الباب أمام انتقادات غربية لكييف وإحباط ربما يفتح الباب أمام البحث عن حلول دبلوماسية للصراع الدموي.
فالحرب، أو “العملية العسكرية الخاصة” كما تسميها روسيا، أو “الغزو العدواني غير المبرر” كما يسميها الغرب، تقترب من إكمال عام ونصف بالتمام والكمال دون أن تلوح لها نهاية وشيكة في الأفق.
وعلى رغم الوعود الغربية منذ شهر طويلة بتقديم طائرات إف-16 إلى أوكرانيا، إلا أن التدريبات على تلك المقاتلات لم تبدأ بعد، بحسب تحليل الشبكة الأمريكية. وكانت أوكرانيا قد رحبت الجمعة 18 أغسطس/آب بنبأ موافقة الولايات المتحدة على نقل طائرات إف-16 عند “اكتمال التدريب”، إلا أن الوصول الفعلي لتلك المقاتلات ومشاركتها في المعارك لا يزال بعيداً عن المتناول.
وتعهّدت أمستردام وكوبنهاجن بتزويد كييف بطائرات إف-16 “بعد استيفاء شروط هذا التسليم”، حسبما أعلن رئيس وزراء هولندا مارك روته الأحد خلال زيارة الرئيس الأوكراني قاعدة سلاح الجو الهولندي في أيندهوفن جنوب المملكة، علما بأن كييف طالبت الغرب مراراً بتسليمها مقاتلات حربية منذ بداية الهجوم الروسي.
لكن، وبحسب تحليل CNN، لطالما كانت مهمة حصول أوكرانيا على طائرات عالية الجودة بسرعة مهمةً طموحة، إذ إن توفير طائرات إف-16، مع القدر المكثف من التدريب والخدمة التي تتطلبها، من شأنه أن يجعل الناتو دائماً أقرب ما يكون إلى طرفٍ مقاتل في هذه الحرب، وهو ما يسعى الغرب بقيادة واشنطن إلى تجنبه ونجح فيه حتى الآن.
فتلك الطائرات تحتاج إلى أن يكون الأوكرانيون متمرِّسين في صيانتها بين عشية وضحاها، وهناك دائماً خطر استدعاء أفراد الناتو لملء الفجوات، أو المساعدة في إصلاح الطائرات داخل أراضي الناتو. وهي خطوة تمثل السبب الرئيسي وراء تباطؤ الوتيرة.
ففي هذا الإطار، كان واضحاً منذ البداية أن واشنطن تحديداً تتجنب أي خطوات تصعيدية كبيرة قد ينتج عنها تحول الصراع إلى حرب مباشرة بين الناتو وروسيا، فرفضت إدارة بايدن اقتراح بولندا بتقديم طائرات ميغ إلى أوكرانيا ورفضت أيضاً فرض منطقة حظر طيران فوق الأراضي الأوكرانية، كما كانت ترفض تقديم أسلحة ثقيلة ومتطورة، كالدبابات والمدرعات والأنظمة الصاروخية إلى كييف.
لكن مع مرور الوقت، تخلت واشنطن والغرب عن كثير من تلك المحاذير وقدمت إلى كييف أسلحة ثقيلة ومتطورة، من دبابات وأنظمة صواريخ باتريوت وغيرها من الأسلحة التي تقدر بعشرات المليارات من الدولارات، هذا بالإضافة إلى التدريب والمعلومات الاستخباراتية بطبيعة الحال.
لكن على الرغم من تعهّد بايدن بفتح الباب أمام إمداد أوكرانيا بطائرات إف-16 تحديداً قبل شهور، وتحديداً خلال زيارة زيلينسكي إلى البيت الأبيض أواخر العام الماضي، إلا أن تنفيذ ذلك التعهد لا يزال مجرد “كلام على ورق” كما يقال، حيث لم يتحقق بعد مرور نحو 8 أشهر، بل إن تدريب الطيارين الأوكراني على قيادة وصيانة تلك المقاتلات لم يبدأ بعد، كما تقول CNN.
والواضح هنا هو أن تلك المقاتلات، حال وصولها إلى أوكرانيا ومشاركتها في الحرب فعلاً، ستنتج عدة سيناريوهات جميعها تقريباً ليست في صالح الغرب: الأول أن تنجح تلك الطائرات في قلب موازين المعركة بالفعل كما تتمنى أوكرانيا والغرب ويجد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نفسه أمام كابوس التعرض للهزيمة العسكرية، فكيف قد يكون رد الفعل؟
أما السيناريو الثاني فهو تعرض الطائرات الأمريكية ذات السمعة المخيفة إلى الهزيمة في المنازلات الجوية مع نظيراتها الروسية، بسبب قلة خبرة الطيارين الأوكرانيين على سبيل المثال، وهو سيناريو سيئ للغاية للغرب بطبيعة الحال. باختصار، الأمور في كلتا الحالتين لا تبدو عواقبها محتملة.
متى يمكن أن تصل “إف-16” إلى أوكرانيا؟
على أية حال، وسواء كان هناك عدد كافٍ من الأوكرانيين المناسبين للتدريب، أو أياً كانت العقبات البيروقراطية الأخرى، فمن الواضح أن الإرادة ليست موجودة حتى الآن بين دول الناتو لإمداد كييف بتلك المقاتلات تحديداً، فقد تعلموا أن بإمكانهم فعل الأشياء بسرعة إذا أرادوا ذلك -وقد فعلوا ذلك مع دبابات ليوبارد الألمانية، بحسب تحليل CNN.
ربما أُجرِيَت حسابات تفيد بأن خطر انجرار الناتو إلى الحرب أكبر من أن يبرر التحرك بشكل أسرع لنقل طائرات إف-16. ومن الأسهل بدلاً من ذلك المقامرة بشأن ما إذا كانت أوكرانيا ستنجح في هجومها المضاد، ويدها مقيدةٌ خلف ظهرها، أي دون المخاطرة بإمدادها بطائرات إف-16 الأمريكية.
وفي هذا الإطار، وحتى لو مضى الغرب قدما في إمداد أوكرانيا بمقاتلات إف-16، فمن غير المرجح أن تتلقى كييف تلك الطائرات بالفعل حتى العام المقبل 2024. وبحسب تحليل الشبكة الأمريكية، يبدو أن المنتقدين للوتيرة البطيئة للهجوم المضاد الأوكراني قد استحضروا في أذهانهم أوكرانيا الخارقة، القادرة على قلب أي مبادئ عسكرية أساسية، بناءً على انسحاب القوات الروسية في أثناء تقدم كييف الخاطف على خاركيف وخيرسون العام الماضي.
وبالتالي فإن قادة الغرب يتوقعون الآن أن الجيش الأوكراني، الذي كاد أن يُمحَى من الوجود قبل 18 شهراً، سيكون قادراً الآن على إنجاز ما لم يحاول أي جيشٍ من قوات الناتو تحقيقه. فلن تفكر جيوش الناتو في التعامل مع حقول الألغام والدفاعات على طول جبهة زاباروجيا الجنوبية بدون دروعٍ متطورة ومعداتٍ مضادة لإزالة الألغام وتفوقٍ جوي وقوةٍ مدرَّبة جيداً.
لكن الغرب منح نفسه بطريقةٍ ما نفاد الصبر على عجز أوكرانيا عن أن تحوز جيشاً من الشباب، وتدريبهم بسرعة على معدات جديدة، واجتياح الأراضي التي تسيطر عليها روسيا بحلول الخريف.
وعلى الجانب الآخر، تعرف القوات الأوكرانية جيداً التأثير الذي يمكن أن تحدثه طائرات إف-16 على القوات الروسية والقتال الدائر بصورةٍ عامة، حيث إنها تعاني الشيء نفسه من الطائرات الروسية الآن.
قال أحد أفراد مشاة البحرية الأوكرانية في الجبهة الجنوبية لشبكة CNN الأمريكية: “أفهم تماماً ما هو الطيران بمعداته وقوته النارية. إنه أمر مخيف للغاية”. وقال إن الروس سيشعرون بنفس التأثيرات التي يشعر بها الأوكران من طائرات إف-16. وأضاف: “ستسهِّل هذه الطائرات الأمور أكثر بكثير؛ لأنهم لن يشعروا بالأمان في مواقعهم الخلفية. لن يكون الجميع مستعدين نفسياً للعودة إلى الخنادق بعد غارةٍ جوية”.
في المدن الأوكرانية المنكوبة، حيث صافرات الإنذار من الغارات الجوية تدوِّي بثبات إلى درجة أن السكان المحليين أصبحوا يحفظون طريقهم إلى الملاجئ حين تنطلق الصافرات، تسمح طائرات إف-16 باعتراض بعض الطائرات الروسية التي تطلق صواريخ من مسافاتٍ بعيدة. من شأن هذه الطائرات أن تعطِّل التفوق الروسي الجوي على المناطق الأوكرانية والرعب الذي يسببه ذلك.
فعندما يأتي الليل في دنيبرو، تسمع صفارات الإنذار وتنتظر الانفجارات، وأي نقاشٍ حول ما إذا كانت أوكرانيا بحاجة إلى المزيد من الدفاعات الجوية يبدو سخيفاً، من وجهة نظر الشبكة الأمريكية.