أثارت لقاحات فيروس كورونا المستجد الجدل حول العالم، بين مُتخوِّف من أعراضها الجانبية، وبين مُشكِّك في فائدتها، وبين رافض لمبدأ اللقاحات من الأساس.
وانتشرت الشائعات كالنار في الهشيم حول القريب الذي تلقَّى اللقاح ثم توفي بعد عدة أيام، أو ذلك الخبر في الصحف عن حالات تجلُّط الدم التي أصابت مريضا ما في أوروبا، أو مَن أُصيبوا بالشلل في الذراع بعد حقن اللقاح، وغيرها من الأخبار التي قد لا تكون كلها خاطئة بالضرورة، إنما تُهوَّل تهويلا مبالغا فيه.
وفي وسط هذا الجدل، ومساعي التلاعب بشهادات اللقاح حتى تُستَخدم في المؤسسات التي تفرض اللقاح على الجميع، حان دور الأطفال لتلقي جرعاتهم، ولكن لماذا الآن.
ومنذ بداية الجائحة، طُوِّرت وأُنتجت لقاحات مختلفة لمواجهة فيروس “كوفيد-19″، وكانت الأولوية دائما لتلقي التطعيم للفئات الأكثر عُرضة للإصابة، خاصة عندما كانت جرعات اللقاح محدودة ولم تُنتَج على نطاق واسع بعد. كان الأطباء والعاملون في مجال الصحة والمستجيبون الأوائل من رجال الإسعاف وغيرهم، وكبار السن والمصابون بأمراض مزمنة، على رأس قائمة الأولويات. ولكن الآن، بعد أن حصل الكثير من البالغين حول العالم على اللقاح واكتسبوا مناعة لا بأس بها ضد الفيروس، فلا بد من تحصين الأطفال أيضا.
وكان العام الدراسي الماضي شديد الصعوبة على الأطفال، وأثَّر تأثيرا كبيرا على دراستهم، حيث كانت الاستفادة العلمية من التعلُّم عن بُعد أقل بكثير من التعلُّم المباشر داخل الفصل. لذا، أصبح من الضروري الآن، أكثر من أي وقت مضى، أن يحصل الأطفال على اللقاح، مما قد يحدّ من عدد أيام الغياب المَرَضية للأطفال خلال العام الدراسي الجديد، بعد قرار فتح المدارس والعمل بكامل طاقتها.
ويستطيع الأطفال حول العالم الآن الاستفادة من تلقي اللقاح، فمن ناحية، يُضعِف اللقاح من فرص إصابتهم بالعدوى أو نقلها للآخرين من حولهم، سواء كانوا من زملائهم أو من البالغين العاملين في المدارس، ومن ناحية أخرى، إن حدثت الإصابة بالفعل بعد تلقي اللقاح، خاصة في ظل تفشي المتحور “دلتا” الأكثر قدرة على الانتشار، فستكون الأعراض أخف وطأة وتنخفض فرص حدوث أعراض جانبية خطيرة تستدعي الدخول للمستشفى.
وهناك سر غامض أحاط بوباء “كوفيد-19” منذ ظهوره، لماذا لا يُصيب الأطفال بالقدر نفسه الذي يُصيب به البالغين؟ للإجابة عن هذا السؤال علينا أن ننظر من كثب إلى طريقة دخول الفيروس إلى أجسامنا.
ويحتاج فيروس “سارس-كوف 2” المُسبِّب لمرض “كوفيد-19” بحسب تقرير للجزيرة نت، إلى بوابة يمر من خلالها إلى داخل الخلية، حيث إن الغلاف المحيط بخلايا أجسامنا منيع ولا يسمح بمرور المواد والجزيئات إلا بتصريح مُحدَّد لكل جزيء. التصريح الخاص بفيروس كورونا هو بروتين صغير على سطح الخلايا البشرية يُسمى (ACE2)، وهو المسؤول عن إدخال الفيروس إلى الخلية واستغلال عضياتها لأجل التكاثر، ومن ثم ظهور أعراض المرض.
وتتركَّز الخلايا التي تحتوي هذا المُستقبِل بكثافة في الغشاء المبطّن للأنف، لذا يُعَدُّ الأنف هو بوابة العبور الأولى للفيروس إلى داخل الجسم، بل في بعض الأحيان تتركَّز العدوى داخل الأنف فقط ولا تمتد إلى أي أعضاء أخرى. لذلك كان لارتداء الكمامات بطريقة صحيحة أهمية قصوى في الوقاية من الإصابة.
ولكن في الأطفال، يبدو أن الغشاء المبطن للأنف لا يحتوي على الكثير من الخلايا التي تمتلك مستقبلا (ACE2)، أي إن الفيروس يعجز عن إيجاد البوابة التي ستسمح له بالدخول، بالتالي فإن فرص إصابتهم بالعدوى أقل بكثير من البالغين، خاصة الأطفال تحت سن 12 عاما، وهو ما كان واضحا منذ بداية الجائحة في كانون الأول 2019. بالإضافة إلى ذلك، فإن الأطفال أقل قدرة على إصابة الآخرين بالعدوى، وترتفع نسبة الإصابة وإمكانية العدوى كلما زاد عمر الطفل، حتى تقترب من نِسَب البالغين في سن المراهقة.
لذلك، لم تحتوِ المدارس على بؤر عدوى شديدة رغم إعادة فتحها في عدة دول منذ العام الدراسي الماضي، وحتى عند ظهور حالات داخل المدارس، فإنها في اﻷغلب في المراهقين الأكبر سِنًّا أو هيئة التدريس من البالغين وليس الأطفال أنفسهم.
وهناك نظرية أخرى قد تُفسِّر لماذا لا ينشر الأطفال العدوى، ربما لأن حجم الرئتين في الطفل يُعَدُّ صغيرا مقارنة برئتَيْ شخص بالغ، لذلك عندما يسعل الطفل لا ينتشر الرذاذ الحامل للفيروس لمسافات طويلة، وعلى الأغلب يسقط على الأرض بسرعة لأن الأطفال قصيرون.
ورغم أن معدل الإصابة بالفيروس في الأطفال منخفض مقارنة بالكبار، فإن هذا لا يعني أنهم لا يُصابون به، فقد أُصيب نحو 6.2 ملايين طفل حول العالم بالفيروس منذ بداية الجائحة. تتشابه أعراض المرض في الأطفال كما في البالغين، وإن كانت لا تظهر بالحِدَّة نفسها، وقد لا تظهر جميعها في الطفل الواحد، بل تمر الكثير من الحالات بلا أعراض على الإطلاق. ولكن إن ظهرت الأعراض على الطفل فقد تكون أحد الأعراض التالية: ارتفاع درجة الحرارة، والسعال، والإرهاق وفقدان حاسة الشم أو التذوق، والصداع وآلام الحلق.
ولكن بعض الحالات تتطوَّر إلى أعراض أكثر خطورة قد تستلزم زيارة غرفة الطوارئ أو الدخول للمستشفى، مثل صعوبة التنفس وآلام الصدر، وفقدان الإدراك والقدرة على الكلام، وإن كانت هذه الحالات نادرة حتى الآن. أما فيما يخص متحورات فيروس “كوفيد-19” مثل المتحور دلتا (Delta Variant) الذي أثار الرعب في العالم، فإنه لا يُصيب الأطفال أكثر من البالغين كما هو شائع، ولكن بسبب قدرته على الإصابة بالعدوى أسرع بمرتين من النسخ السابقة له، فإن حالات الإصابة في الأطفال أصبحت أكثر وضوحا وانتشارا، ولكن لم يثبت أنه يُسبِّب أعراضا أكثر خطورة أو حِدَّة من المتحورات الأخرى، سواء كان ذلك في البالغين أو الأطفال.
في بعض الحالات شديدة الندرة، يستطيع المتحور دلتا، وهو المتحور الأكثر انتشارا على مستوى العالم في الوقت الحالي، إصابة الطفل بما يُطلَق عليه “متلازمة الالتهاب متعدد الأجهزة في الأطفال”، وهو أحد المضاعفات النادرة لـ “كوفيد-19″، التي تعني أن العديد من أعضاء الجسم تُصاب بالالتهاب في وقت واحد، مثل الرئتين والقلب والمخ والجلد والجهاز الهضمي.
وتظهر أعراض المتلازمة بعد عدة أسابيع من الإصابة الأصلية بالفيروس، وتتمثَّل في ارتفاع مستمر في درجة الحرارة، بالإضافة إلى آلام البطن، واحمرار العينين، والقيء والإسهال، والطفح الجلدي والدوار. ويبقى السبب في حصول هذه المضاعفات في بعض الأطفال دون الآخرين لغزا ما زال قيد البحث.
من بين اللقاحات العديدة التي طُوِّرت ضد “كوفيد-19″، لم يحصل سوى اثنين منها على موافقات لاستخدامها في الأطفال. منحت منظمة الغذاء والدواء (FDA) تصريحا طارئا لشركة “فايزر” لتوزيع لقاح “فايزر-بيونتيك” للفئات العمرية من 5-11 عاما، وهو تصريح يُمنح في حالات الطوارئ فقط لأي لقاح أو دواء لم يحصل على الموافقة الكاملة بعد، أو لا يطابق المواصفات القياسية مطابقة كاملة من أجل الفائدة الأكبر، ويحتوي هذا اللقاح الخاص على جرعة أقل من تلك المستخدمة في البالغين. تُشير الدراسات إلى أن اللقاح يمتلك القدرة على وقاية الأطفال في هذه الفئة العمرية من الإصابة بالفيروس بنسبة 91%، ويُعطى في جرعتين يفصل بينهما 3 أسابيع فحسب.
بالمثل، منحت المنظمة تصريحا طارئا لاستخدام لقاح فايزر في الفئة العمرية من 12-15 عاما، ولكن بجرعة مماثلة للجرعة التي يتلقاها البالغون، وتُشير الأبحاث إلى كفاءة تصل إلى 100% في وقاية هذه الفئة العمرية من الإصابة بالفيروس.
في المقابل، منحت المنظمة موافقة نهائية لإنتاج لقاح فايزر للفئة العمرية 16 عاما فأكثر، يحتوي على الجرعة الممنوحة للبالغين، بنسبة وقاية من الإصابة تصل إلى 91%، ونسبة وقاية من المضاعفات الخطيرة للإصابة بالمتحور دلتا بنسبة 96%، أي إن الحالات التي تلقَّت اللقاح، ثم أُصيبت بهذا المتحور، على الأغلب ستُعاني من أعراض خفيفة بلا مشكلات كبيرة.