إسكندر حبش
كأنها رواية تجمع العديد من المناخات المختلفة. إذ يمكن أن نقرأها مثلما نقرأ رواية بوليسية لريموند شاندلر، أو ربما أيضاً مثلما نشاهد فيلما قديما للويس بونويل، من دون أن ننسى هذا “المدهش والساحر” اللذين تتمتع بهما روايات الأرجنتيني خوليو كورتاثار.
منذ بداياته الأدبية، عودنا الكاتب الاسباني أنطونيو مونيوس مولينا أن يكون متآخياً مع الظلال، أن يكون “كوريغراف” اللامرئي، مثلما نجده يتقاسم مع لوركا هذا الميل إلى “عرس الدم”. كلّ هذا جعل من مولينا، في العقد الأخير، واحدا من أهم الكتّاب الإسبان المعاصرين. إذ بفضله، كما بفضل خافييه مارياس، تبدو الرواية الإسبانية الحديثة وكأنها تخطت العقبات الكثيرة التي كانت تمنعها من الانتشار في العالم. بهذا المعنى يبدو مولينا كما رفيقه، الوجه الأكثر إشكالية في الأدب الروائي الإسباني المعاصر.
إحدى ميزات الكتابة عنده، دخولها إلى هذه الأعماق الروحية لأدب يرغب في التجوال على “سراديب أموات” التاريخ الإسباني ليعيد جمع شياطين الفرنكوية القديمة المرعبة الأشبه بالأفلام السينمائية ليمزجها بهذا الاعتراف الحميمي والبحث الميتافيزيقي، من دون أن ينسى بالتأكيد هذه الموسيقى الشفقيَّة التي “تتموسق” عند تخوم الصمت. أيّ في هذا المكان الذي تهتز فيه مصائرنا، في المكان الذي يكتشف فيه شرطنا الإنساني.
في “ريح القمر” (الترجمة الفرنسية عن منشورات “لو سوي”)، يعود مولينا ليحدثنا عن “حلمه” إذا جاز القول.
ندخل إليه عبر المشهد الآتي: „كانت العيون شاخصة إلى السماء تحدق بها بقوة، إذ إن البشرية بأسرها، كانت تنتظر، لحظتها، نيل أرمسترونغ ليطأ بقدمه هذا المدى السحيق القاحل والفارغ. لم تعد هناك أي حدود موجودة ولا أيّ شعور بالخوف. لقد اختفى كل شيء. من الولايات المتحدة وصولاً إلى أعمق أعماق آسيا، استقبل الجميع هذا الحدث بصمت مهيب، بصمت احتفالي إلى درجة كبيرة، على الرغم من أنه كان صمتاً خانقاً. في تلك الأثناء، وفي قلب الأندلس، كان هناك مراهق شاب يعيش هذه اللحظة التاريخية التي بشّرت بآمال كبيرة، بكثافة كليّة. انسحب إلى رطوبة غرفته كي ينعزل فيها، غار في دواخل رغبته. في هذه الزاوية، كان بعيدا عن كلّ شيء، بعيدا عن اسبانيا الفرانكوية (من الجنرال فرانكو)، عن عائلته، عن مدرسته الدينية، عن نصيبه الدائم في الذل. حاول أن يتخيل ضجيج الصاروخ وهو يصل إلى القمر، حاول أن يتخيل قلق رواد الفضاء الذين كانوا على متن المركبة وهم يحطون فوق سطح القمر. كان يراقب من على شاشة ويشعر بأنه قريب منهم إلى درجة كبيرة: في كلّ لحظة، كنت أتحول من دون جهد إلى ذاك الذي كنت – في تهويماتي – أرغب في أن أكونه، لذلك اخترعت رواية تتناسب فعلا مع هويتي المحلومة“. لم يعد يسمع إلحاح والديه، لم يعد يرى صورة الجنرال وهي تقترب، كان قد أصبح في عالم آخر. ومع ذلك، وبعيداً عن هذا العالم الخيالي، ثمة الكثير من الأنين حوله. أنين مؤلم، الفقر الساحق، القسوة، التدمير، القرف، القذارة. إنها قرية مالغوينا التي لا تشير إلى أي مستقبل ممكن فيها، إذ إن أيامها تتشابه بأسرها، حتى الأرض فيها جافة وقاحلة على الدوام. لا أحد من السكان ينتظر حدوث شيء، إذ دخل الجميع في عادات الحياة اليومية، وفي تفاصيلها القاتلة. من هنا غالباً ما كان يتساءل، وهو ابن الفلاح الفقير: أي مصير ينتظره، أي مصير يأمله؟
لم يكن أمامه سوى خيار واحد: التنكر للواقع كي يستمر في الحياة، كي يبقى على قيد الحياة، أن يؤمن بأنه لا يزال حراً، بأنه حرّ كي يذهب إلى ما وراء الحدود، إلى ما وراء الحياة.
من هنا لا نجد أنفسنا أمام رواية ترغب في أن تقص علينا أخبار هذه الملحمة العلمية، إذ كل شيء موجود هنا: „ميثولوجيات إسبانيا في الستينيات، همسات الذين يعترفون عند رجال الدين، طاولات المدارس الداخلية التي تبدو كأنها أصبحت تشكل امتدادا لأجساد طلابها، العروض السينمائية في الهواء الطلق، لمعان أولى أنوار الشاشات التلفزيونية، أولى ظلال رجال الكتائب الاسبانية المخيفة، يد الأب الممسكة بالمجرفة. أي أننا بمعنى آخر نحن أمام كل ما شكل تلك الطفولة وعوالمها، لذلك يعود الكاتب الإسباني، مرّة جديدة، إلى أراضي طفولته – الحاضرة في غالبية كتبه ورواياته الماضية – إلّا أنه في هذه المرّة لا تظهر الحرب الأهلية الإسبانية بالعنف التي كانت تظهر عليه، إذ إنها لم تعد سوى أصداء بعيدة، لقد أصبحت أكثر مخاتلة وخداعا، وصارت موجودة في هذا البدء الأبدي، كأنّها نهاية صراع ما. إذ لكل واحد من هؤلاء السكان قصته الصامتة التي يخفيها داخله، ربما لأنَّ الخوف لا يزال مهيمناً، أو لنقل لا تزال له أجنحة قد تحمل الحكايات إلى آذان تنتظرها.
من دون السقوط في أيّ نوع من أنواع الحنين، يبدو النثر الشعري الذي يقترحه الكاتب قادرا على إثارة قرائه بلغته المتطلبة الغنائية. من هنا نحن أمام درس أسلوبي كبير.