أبعاد- الكاتب: فخري كريم
ليس انحيازًا عاطفياً، وإنما هو إقرار بما هو حال. إن مصر تظل مرآة عالمنا العربي، في نهوضه وفي انتكاساته. وتظل أم دنيانا، بغض النظر عن مشاربنا وتوجهاتنا وأيديولوجياتنا. كأنما هي قدرنا.
وقد أكدت العقود الماضية المزدحمة بالتحولات السياسية المصيرية العاصفة هذه الحقيقة. وتبين المشهد العربي بكل تجلياته بعد اتفاقية كامب ديفيد وتشتت العرب، الدور المركزي لمصر ،سواءً في نهوض الشعوب العربية ومعاناتها أو في تخبط القوى والنخب السياسية بخيارات أضعفت يقظتها وقوضت الجهد المشترك لتعبئة قواها، ورسم سياساتٍ عقلانية من شأنها الحيلولة دون تعميق ما كانت تواجهه من أزمات. في ظرف تعذر فيه استنهاض طاقات الأمة وابتكار وسائل وأدوات ممكنة لمواجهة مظاهر الانحدار والتفكك التي بدت بالغة الوضوح في معالمها ومحركاتها.
لقد صارت مصر في تلك المرحلة، أواخر السبعينيات ومطلع الثمانينيات، بعد حقبة التطبيع السياسي مع إسرائيل، في حالة عزلة تكاد تكون شاملة عربياً. وانعكس ذلك بشكل خاص على دور المثقفين والمبدعين وموقفهم الذي تبدى فيما يُشبه الاستنكاف إن لم يكن مقاطعة أي مشاركة في الفعاليات الثقافية والفكرية التي تُقام في مصر وتنظمها المؤسسات الفكرية والثقافية فيها. وتحولت مجرد زيارتها الى تهمة الانحياز إلى التطبيع. وتبعاً لذلك انكمشت الحركة الثقافية العربية وتراجع تأثيرها. وكادت فعاليات مصر الثقافية في مناسبات عديدة تخلو من حضور أبرز الرموز والقامات الثقافية العربية، ربما باستثناء مهرجان شوقي وحافظ عام 1982.
في هذه اللحظة الفارقة أمكن بفعل حضور العامل الذاتي الخلاق، كمرجعية ثقافية تمتلك المصداقية الوطنية من تفعيل دور الثقافة والمثقفين بتجاوز التعامل السلبي مع ما تواجهه الأمة من مخاطر والارتقاء إلى مستوى التحديات ومتطلبات التصدي لها.
هنا برز دور الدكتور جابر عصفور وهو يتولى الأمانة العامة للمجلس الأعلى للثقافة، في بناء جسور التواصل واستعادة الثقة مع الأوساط الثقافية في العالم العربي، وإشاعة الوعي في الحركة الثقافية بأهمية مواجهة التراجع السياسي، بتفعيل دور العامل الثقافي الإيجابي كمحركٍ لتعميق الوعي والانبعاث والتأسيس عبر عشرات اللقاءات والندوات وورش العمل لكل ما يعيد الاعتبار للعمل المشترك.
تحقق ذلك بمبادرة جريئة لكوكبة من المثقفين والمفكرين، يتصدرهم جابر عصفور بما كان يتمتع به من ثقة ومكانة بين المثقفين والمفكرين في العالم العربي، وقد أمكن بالتعاون مع زملائه وشريحة واسعة من الأدباء والكتاب والفنانين والمفكرين والمبدعين بتلاوينهم وتنوع أدواتهم الإبداعية من تجاوز “السياسي” لصالح الثقافي كحامل همٍ لكشف مكامن القوة في الأمة، ومصادر استنهاضٍ لطاقاتها، والارتقاء بكل ما يقود إلى كشف مكامن الضعف، والعوامل التي تغذي الأزمات المستدامة وتدويرها، والسبل الكفيلة بالتصدي لها.
واستطاع جابر عصفور بذلك أن يجعل من المجلس الأعلى للثقافة أطاراً لمشروعه الثقافي القومي في استقطاب المثقفين والمفكرين العرب، وإنجاز همه الوطني في استدعاء كل الطاقات الإبداعية المصرية وإشراكها فيما يرمي لتحقيقه، وصار المجلس، دون مبالغة، قبلة للمثقفين العرب وإطاراً متميزاً مرموقاً لفعاليات تغطي مساحة باتساع ما تشمله الثقافة، تراثاً وحاضرًا، والأهم أنه أصبح منبراً للاستنارة والتحديث والتجديد، لكنه لم يكن إطاراً وحيداً لاستنهاض الحركة الثقافية، بل نهضت إلى جواره وتكاملت معه مؤسسات ثقافية وفكرية رائدة تولت قيادتها شخصيات بارزة في ميادينها تركت بصماتها في كل ركن وميدان وحقل ثقافي وفني ومعرفي، واستطاعت أن تسهم في نهضة مصر الثقافية الحديثة وحركة التنوير التي كان لها دور مجيد في إحباط ما أريد له أن يقوض حضارة مصر وينحدر بها إلى مساقط الجهالة والظلامية السوداء وأن يجعل العالم العربي والإسلامي رهينة لمشروعها الإخواني المتأسلم لخمسة عقودٍ آتية..
لقد أصبحت وزارة الثقافة تلعب دورًا رائدًا بقطاعاتها المختلفة: الهيئة العامة للكتاب برئيسها سمير سرحان، والعلاقات الثقافية الخارجية برئيسها محمد غنيم، والرقابة على المصنفات، والمركز القومي للسينما برئاسة علي أبو شادي، وقطاع الفنون التشكيلية برئاسة أحمد نوار. ودار الكتب برئاسة صابر عرب، والثقافة الجماهيرية برئاسة أحمد مجاهد، وإدارة اللجان الثقافية بإدارة عماد أبو غازي. وأكاديمية الفنون برئاسة فوزي فهمي، والمجلس الأعلى للآثار برئاسة جاب الله. لكنني لن أغادر الحقيقة إذ أؤكد على أن المجلس الأعلى كان الحاضنة والمحور المركزي لفك العزلة الثقافية وإحياء دور الثقافة كمحركٍ وباعثٍ على التعبئة الثقافية على الصعيد العربي.
لكن دور المجلس لم يقتصر على ما حُدد له من مهام تأسيسية، بل تخطاها، بما تلبس جابر، من هواجس للتمدد والتوسع في كل اتجاهٍ يُسرّع فيه حركة تفعيل العمل الإبداعي والثقافي. ولم يتوقف عند إمكانيات المجلس المحدودة في الترجمة ونشر أمهات الكتب المعرفية من كل اللغات بل كان وراء إطلاق المركز القومي للترجمة، هذا الصرح البارز الذي يغني المكتبة العربية بما يتعذر على أي دارٍ أو مؤسسة خاصة أن تقوم به.
ومن الصعب تعداد ما قام به جابر من نشاط ومبادرات لإنعاش الحركة الثقافية في مصر وعلى الصعيد العربي، من خلال دوره في مؤسسات وزارة الثقافة ودوره في الجامعة الأم التي ظل ينتمي إليها إلى آخر لحظة، ودوره في لجان مكتبة الإسكندرية منذ تأسيسها.
لكن من اللافت أن كل ما تميز به من نشاط وفعالية، سواء في ميادين مسؤولياته في المجلس أو مشاركاته في الفعاليات العربية والأجنبية، لم يحد من جهده الكتابي ناقدًا ومثقفًا تنويريًا. كان يقبل على الكتابة مثل تلميذ ملزم بإنجاز وظائفه المدرسية البيتية. قال لي مرة، وهو عندي في إحدى زياراته لي مع شريكته الأثيرة الدكتورة هالة، وأنا منشغل في متابعة أحد الاصدقاء مؤجلاً كتابة افتتاحية الجريدة: يا أخي أترك هذه العادة المتخلفة، وقت الكتابة مقدس. تصور لو أن المرحوم والدي وهو حي يزورني يوم الثلاثاء وقت كتابة مقالتي لما فتحت له باب مكتبي إلا بعد انتهائي من كتابة المقال
إحدى مآثر جابر، التي أتمنى أن تتواصل في المجلس، اهتمامه، بل كان يؤرقه الجهد المطلوب، لاستمرار نهوض الحركة الثقافية وخلق الكوادر الثقافية الكفوءة القادرة ليس على قيادة المؤسسات الثقافية فحسب بل على تطويرها والارتقاء بها وتوسيع نشاطاتها وفعالياتها بحيث تتحول الثقافة وتجلياتها إلى عادة يومية ينخرط فيها الشباب وتتنقل ليس في المدن بل وفي الحارات والأرياف. إنني، إذ أشيد بمن ذكرت، أرجو أن أكون قد عبرت بذلك عن تقييم زملائي، الذين أتشرف بالإنابة عنهم ويحزنني أن أغلب من جئت على ذكره قد غادرنا إلى سكينة الأبدية تاركاً فراغاً لافتًا. موشحاً بالحزن والأسى
إنني على قناعة بأن السيدة الفنانة الوزيرة إيناس عبد الدايم التي ساهمت مع جابر وزملائه في النهضة التي شاعت يومذاك تُشاطرني الرأي بدور الفنان الوزير فاروق حسني وتفاعله فيما تحقق من إنجازات
في كل مرافق وزارة الثقافة وفي المجلس الأعلى ولم يكن ليتم ذلك دون تفهمه وتفاعله وهو الذي كان يفخر بأن يكون على رأس “مجمع وزاري” في وزارة واحدة، يعمل أفرادها في تناغم ومحبة حقيقية للثقافة والفكر ودون حساسية أو غيرة.
إن هذا الملتقى الدولي، الذي يتشارك في إقامته المجلس الأعلى للثقافة مع مؤسسة سلطان العويس تحت رعاية الفنانة أ.د/ إيناس عبد الدايم وبإشراف كل من أ. د/ هشام عزمي الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة والسيد إبراهيم الهاشمي المدير التنفيذي لمؤسسة سلطان بن علي العويس بالإمارات العربية المتحدة لدليل على حرصهما في تكريس العمل الثقافي المشترك لما فيه رفعة الثقافة وتعزيز النشاط المتعدد الجوانب بين المثقفين والمؤسسات الثقافية في البلدان العربية.
لكم جميعًا، أيتها السيدات والسادة الحضور التحية والتقدير على مشاركتكم في هذا الملتقى. والتحية والتقدير موصول لكل الزميلات والزملاء الذين تحملوا مسؤولية ما قلته باسمهم دون استئذانهم ..!
فأرجو أن لا أكون قد شططت ..!