أبعاد- الكاتب: علاء اللامي
في خضم الأجواء السياسية والاجتماعية المحتدمة والملبدة في تونس، وخصوصا بعد الإعلان عن نية الرئيس التونسي، قيس سعيد، تعديل الدستور النافذ والمعدل بعد الثورة /الانتفاضة التونسية سنة 2014، برزت إلى السطح قضية سياسية وفكرية ذات أهمية وحيوية استثنائية تتعلق بالحريات والتعددية السياسية والموقف من الدين والأحزاب السياسية الإسلامية. وقد أعلن في تونس عن نية الهيئة المكلفة بكتابة مسودة الدستور الجديد أو المعدل حذف المادة الأولى التي تنص على أن الإسلام هو دين الدولة”. لن أدخل في هذا النص في موضوع دستورية التعديل الرئاسي للدستور من عدمها، فلهذا المفصل من الموضوع ميدانه الخاص، بل سأركز على موضوعة “دين الدولة والموقف الدستوري من الأحزاب السياسية الإسلامية” في تونس وأيضا في عراق ما بعد الاحتلال الأميركي سنة 2003:
كان الرئيس سعيد قد مهَّدَ لهذا الإعلان قبل بضعة أيام بخطاب في مناسبة دينية جاء فيه أن “الإسلام هو دين الأمة وليس دين الدولة، فنحن لا نصلي أو نصوم بناء على الفصل الأول من الدستور وإنما بأمر من الله، فالدولة ذات معنوية مثل الشركات فما معنى أن يكون لها دين؟ وإنَّ العلاقة تكون مع الله وليست مع من يدعي أنه الجهة الوحيدة المخولة لعبادة الله”. معتبرا أنّ “علاقتنا مع الله وليس مع الدولة”. وأضاف الرئيس: “سنقف أمام الله وسنحاسب فُرادى، ولن يأتي معنا لا مجلس نيابي ولا حكومة تقف إلى جانبنا ونحن على الصراط، ولن نرى دولة أو مجلسا نيابيا أو حكومة تمرّ على الصراط أو تتساقط على الصراط يميناً وشمالا”. ومعلوم أن الرئيس التونسي رجل مسلم متدين ولا يمكن اتهامه من قبل الإسلاميين أو غيرهم في دينه وعقيدته، ولكنه عبر هنا عن رأي دستوري صحيح من حيث المضمون، غير أنه يثير الاختلاف سياسيا من حيث الهدف المعلن لهذا التعديل. لننظر الآن في المضمون وذاك الهدف ولكن من زاوية قريبة منه، وتتعلق بالقضية نفسها في الدستور العراقي:
كنتُ قد كتبتُ سلسلة مقالات حول الدستور العراقي نشرت سنة 2013، أوردت في إحداها رأيا يطابق هذا الرأي الداعي الى حذف أو تعديل هذه المادة في الدستور العراقي تماما مع اختلاف البواعث والأهداف بين مجتمعين الأول منسجم دينيا وطائفيا هو التونسي وآخر منقسم طائفيا بعمق هو العراقي. لقد استعمل الرئيس التونسي عبارة “الدولةُ ذاتٌ معنويةٌ”، وقد استعملتُ في مقالاتي عبارة “الدولةُ شخصيةٌ اعتباريةٌ” لا يمكن لها أن تكون متدينة، فالتدين من صفات الأشخاص الحقيقيين أو الذوات الطبيعيين، والعبارتان متطابقتان من حيث المضمون كما يرى القارئ. وللتوثيق فقد كتبت في تلك المقالة “الأخبار، عدد 16 تموز 2013″، حرفيا “إنَّ المطالبة بعدم النصِّ على صيغة «الإسلام دين الدولة الرسمي» يسوِّغه كون الدولة شخصية اعتبارية لا شخصية حقيقية «طبيعية» حتى تكون مسلمة أو غير مسلمة، فنحن يمكننا أن نقول إنّ فلاناً مسلم، ولا يمكننا أن نصف شخصية اعتبارية كالدولة أو الفريق الرياضي أو النقابة بكونها مسلمة أو مسيحية. يمكن أن نصفَ أو نعرِّف شعباً بأنه مسلم الديانة، أو ذو غالبية مسلمة، ولكن لا يمكننا وصف الشخصية الاعتبارية التي لا تصلي ولا تصوم ولا تقوم بالواجبات التي تقتضيها الصفةُ من الموصوف بأنها مسلمة أو غير مسلمة. ومن الجدير بالذكر أن خبراء القانون والدستور المصريين والسوريين كانوا قد أهملوا هذه المادة بعلم الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر ولم يذكروها في مسودة دستور الجمهورية العربية المتحدة الذي لم ير النور بعد فشل تلك التجربة الوحدوية بين مصر وسوريا”؛ أما التعديل الذي اقترحته فهو “ضرورة تعديل الفقرة 1 من المادة 2 ونصها «الإسلام دين الدولة الرسمي، وهو مصدرٌ أساس للتشريع» لتكون «الإسلام دين أغلبية الشعب العراقي، وهو واجب الاحترام إلى جانب الديانات الأخرى في العراق».
أستدرك هنا، بخصوص المادة المتعلقة بهوية العراق، فأقول إنني طوَّرت فكرتي حول هذه القضية في السنوات القليلة الماضية ليكون التعديل الخاص بالهوية مؤكدا للهوية الحضارية العربية للعراق، وذلك بالتنصيص الدستوري على أن “العراق بلد عربي الهوية الحضارية والانتماء، وهذه الهوية الموروثة لم تعنِ يوما ولن تعني مستقبلا إنكار وجود أقليات قومية واحترام حقوقها المشروعة وخصوصياتها الثقافية. فالعراق ومنذ آلاف السنوات هو موطن الشعوب والأمم الجزيرية “السامية” منذ الأكديين وحتى العرب الذين بلغوا ذروة ازدهارهم الحضاري في العصر العباسي، والعرب يشكلون اليوم أكثر من 85 بالمائة تقريبا من سكان العراق”. أما من يقول إنَّ هناك تناقض بين القول بأن العراق بلد تعددي المكونات واقعاً وإنه بلد عربي الهوية، فالرد عليه بسيط جدا، إذ أن الدستور الذي شرع في سنوات الاحتلال الأميركي الأولى والذي جرد العراق من عروبته قد فعل ذلك، حين جميع بين التعميم والتخصيص، فنصَّ على أن هوية العراق إسلامية وكونه جزءا من العالم الإسلامي ولكنه أيضا بلدا متعدد المكونات الطائفية والدينية! ثم متى كانت الهويات الفرعية التي نشأت وانتعشت في مرحلة ما قبل الدولة الحديثة وفي عهود الانحدار والهزائم التاريخية والاحتلال الأجنبي كالهوية الطائفية أو العشائرية التي يرفعها ويدافع عنها أنصار الأحزاب الطائفية العراقية، متى كانت لها الأولوية على الهويات الرئيسية الحضارية للأمم والشعوب في البلدان المستقلة استقلالا حقيقا؟
على أساس ما تقدم، يمكن القول إن التعديل الدستوري الذي يريده الرئيس التونسي بعدم النصِّ على أن الإسلام دين الدولة، هو تعديل صحيح، وله ما يبرره منطقيا وشكلانياً من الناحية الدستورية، غير أن من المستحيل – ديموقراطيا – الاتفاق مع الهدف المعلن لهذا التعديل لأنه هدف سياسي لا علاقة له بالأمور الدستورية. إن هذا الهدف، وهو حظر نشاط حزب إسلامي منافس، وله قوة انتخابية وشعبية لا تنكر، وبغض النظر عن ممارساته والاتهامات التي توجه له بالفساد و”الإرهاب”…إلخ، مكانه الحقيقي ساحة القضاء لا الشارع الدستوري ولجان كتابته وتعديله.
لقد ورد هذا الهدف السياسي حرفياً على لسان الصادق بلعيد، منسق الهيئة الوطنية الاستشارية لإعداد الدستور التونسي، والذي قال “إنَّ مسودة لدستور لن تتضمن ذكرا للإسلام دينا للدولة، بهدف التصدي للأحزاب ذات المرجعية الإسلامية على غرار حركة النهضة” والتناقض واضح في هذه العبارة لأنها تحاول تعليل إجراء سياسي بحت مكانه القضاء عبر صياغة مادة دستورية وفي هذا الفعل إخلال واضح بمبدأ يقول إن الدستور هو “قانون القوانين” أو القانون العام للدولة الذي تشتق منه القوانين القضائية التفصيلية.
إن الدعوة لحظر الأحزاب والحركات الإسلامية، وذات المرجعيات والتوجهات الإسلامية العامة، ينطوي على بُعْدٍ ومضمون لا ديموقراطي واضح أولا، ويرتكز على خلط خَطِرٍ بين نوعين من هذه الأحزاب والحركات واعتبارها نوعا مضمونيا واحدا، ثانيا. أعني؛ أنَّ عدم التفريق بين الأحزاب والحركات الإسلامية التي تدعو علنا إلى استبدال الدولة المدنية القائمة بأخرى دينية على طريقة الخلافة الراشدة وتطبيق الشريعة “السُّنية”، أو ولاية الفقيه “الشيعية” وامتدادها المذهبي الاثني عشري من جهة، ومن أخرى مقابلة أحزاب وحركات أخرى ذات مرجعيات وتوجهات ثقافية إسلامية عامة تؤمن بالمنافسة السياسية البرلمانية وتعترف بفصل ماهو سياسي عما هو عبادي وديني وعن التوظيف والاستثمار في الدين والعقائد الدينية الشعبية التي لا يجوز لحزب سياسي المتاجرة بها سياسيا أو احتكار تمثيلها والنطق باسمها لأنها تخص المجتمع ككل. وأخيرا، فهناك إهمال للواقع الاجتماعي من حيث انسجامه الطائفي أو تنوعه في هذا البلد أو ذاك!
إن مبررات دعاة حظر الأحزاب الإسلامية بإطلاق القول، ودون قيد أو تفريق أو استثناءات، هي مبررات ملتبسة ومتناقضة. فإذا كان دعاة الحظر ينطلقون من مرجعيات ديموقراطية ليبرالية غربية فالدول الليبرالية الغربية نفسها أباحت وجود أحزاب ديموقراطية مسيحية – وهي أحزاب ذات مرجعيات دينية عامة تعترف باستقلال وحياد الدولة – وقد حكمت بعض هذه الأحزاب وما تزال تحكم دولا غربية عديدة ومهمة، بل أن الدولة التركية العلمانية – وهي علمانية من النوع القصوي أو المتطرف في علمانيتها – سمحت بوجود حزب ذي خلفيات إسلامية هو حزب العدالة والتنمية، وها هو يحكم تركيا منذ أكثر من عقدين نجح خلالهما في الانتقال بتركيا “الانقلابية المتخلفة” الى ضفاف مجموعة الدول العشرين من حيث التطور والنمو الاقتصادي رغم كل ما يقال عن نقاط ضعف هذه التجربة وتخبطها في أيامنا، وسيئات زعيمها أردوغان؛ وإذا كان دعاة حظر الأحزاب الإسلامية من ذوي المرجعيات الاشتراكية اليسارية فالتجارب الاشتراكية وخصوصا في نموذجها السلافي “السوفيتي” والصيني لم تكن دولا ليبرالية تعددية سياسيا ليُقاس عليها ويقتدى بها في التجارب التعددية لأنها كانت تأخذ بمبدأ الحزب الواحد، بخلاف التجارب الاشتراكية الحديثة في أميركا اللاتينية والتي وصلت في بعض تجاربها – نيكاراغوا مثلا- إلى درجة التحالف والاندماج بين الحركات والأحزاب الاشتراكية الماركسية والحركات والشخصيات المسيحية المنتمية الى حركة “لاهوت التحرير”.
أما في المجتمعات المنقسمة دينيا وطائفيا كالعراق حيث ينقسم المجتمع المسلم فيه إلى شطرين متقاربين ديموغرافيا، تقول بعض الاحصائيات غير الرسمية أنه منقسم الى 55- 60 بالمائة من المسلمين الشيعة و40- 45 بالمائة من المسلمين السُّنة. وفي مجتمع منقسم كهذا فإنَّ أي حزب إسلامي لا بد وأن يكون طائفياً حُكماً وواقعا، فيتكون تنظيمياً من أناس طائفة واحدة، وينشط وتقوقع في حاضنة من طائفة واحدة، وهنا مكمن الخطورة فهو يتحول – شئنا أو أبينا – الى عامل انقسام سياسي واجتماعي عميق يهدد وحدة المجتمع والدولة كلها. وفي هذه الحالة فإن حظر هذا النوع من الأحزاب يكون مبررا وصحيحا، خصوصا إذا كانت تجربته في حكم العراق طوال العقدين الماضيين تقريبا فاشلة ومنخورة بالفساد وفقدان السيادة والاستقلال. ولكن هل يمكن أن تولد ذات يوم أحزاب إسلامية لا سنية ولا شيعية في العراق، أحزاب ترفض الطائفية السياسية نظريا وعمليا ولا تهدف إلى إقامة دولة دينية على أنقاض الدولة المدنية ويكون جمهورها من مختلف أبناء الطوائف الإسلامية؟ أعتقد ان هذا السؤال ينتمي الى عالم المستقبل والطموحات المشروعة فهو سؤال رغبوي أكثر منه موضوعي يبحث عن إجابة، رغم أنه ربما يشير من طرف خفي إلى المطموح إليه الإيجابي في حلقة الصراعات الأيديولوجية والسياسية المفرغة التي تدور في عصرنا وندور فيها ومعها.