كان يفترض أن يكون الأمر سهلاً على ماغنوس كارلسن أو على الأقل بسهولة مباراة شطرنج من الدرجة الأولى. عندما جلس بطل العالم بالشطرنج مقابل الشاب الأميركي هانز نيمان البالغ 19 عاماً في بطولة سينكفيلد في مطلع الشهر الحالي، حظي بفرصة اللعب بالقطع البيضاء [كانت له الخطوة الأولى]، وكان قد حقق سلسلة من الفوز المتواصل بـ 53 مباراة ويواجه شخصاً دخل المسابقة كاللاعب الأقل تصنيفاً.
قلة توقعوا حدوث مفاجأة، ولكن هذا ما حصل.
كانت خسارة كارلسن أمام نيمان في تلك المباراة أمراً غير اعتيادي، ولكن ما استتبع ذلك كان غريباً أكثر. ففي اليوم التالي، انسحب المصنف رقم واحد وبطل العالم بالشطرنج من البطولة من دون إعطاء أي شرح، بل اقتصر ذلك على تغريدة على “تويتر” وميمز [مقطع ساخر].
وكتب في تغريدته “انسحبت من البطولة. لطالما استمتعت باللعب في بطولة الشطرنج الكبرى دورة “سانت لويس” @STLChessClub، وآمل أن أعود في المستقبل”، مرفقاً التغريدة بمقطع فيديو للمدرب جوزيه مورينيو يقول فيه “أفضل عدم الكلام، إذا تكلمت فسأقع في ورطة كبيرة”.
لم يقل كارلسن ذلك بشكل صريح، بيد أن انسحابه والفيديو المبهم المشفر فسرا بأنهما اتهام مقنع بأن نيمان اعتمد الغش.
أنكر نيمان بشدة الاتهامات المساقة ضده، ولكن غرق عالم الشطرنج بالأحداث الدرامية منذ ذلك الحين وهو مؤلف من الدائرة الخاصة من اللاعبين والمعلمين واليوتيوبرز ومروجي المحتوى على الإنترنت (ستريمرز) وهواة اللعبة.
وفي هذا السياق، قال ليفي روزمان، وهو أستاذ دولي في الشطرنج ومقدم في قناة “يوتيوب” شهيرة خاصة بالشطرنج في فيديو نشره “بشكل أساسي، يبدو أن ماغنوس كارلسن يعتقد أن هنالك خطباً ما مع هانز نيمان.”
ووصف الأمر “بأكبر فضيحة في تاريخ الشطرنج”.الغش في الشطرنج هو ممارسة قديمة بقدم اللعبة نفسها، بيد أن بروز اللعب عبر الإنترنت مترافقاً باختراع محركات شطرنج يشغلها الذكاء الاصطناعي، والتي بوسعها احتساب ملايين الحركات المحتملة في ثوان، أدى إلى انفجار في عمليات الغش في السنوات القليلة الماضية.
وتصف “تشيس دوت كوم” (Chess.com)، أشهر منصة للشطرنج على الإنترنت، عملية الغش “بالجانب القذر المخفي [السري] إلى حد كبير من الشطرنج” والذي “تعانيه مواقع الشطرنج الإلكترونية”.
ويقول الموقع إنه يقوم بتعليق نحو 500 حساب يومياً بسبب الغش.فكيف يفترض بنيمان الذي لعب ضد كارلسن شخصياً أن يغش؟ هنا اتخذت الأمور منحى غريباً.
وانتشرت نظرية يقال أنها برزت من أعماق موقع “ريديت” (Reddit) والتي افترضت بأن نيمان استخدم حبيبات متذبذبة توضع في الشرج لتلقي الأوامر من مساعد خارجي، وتمت مناقشة هذه النظرية من قبل المعلم الكبير إريك هانسن في بث مباشر على أنها محتملة الحدوث إلى حد كبير.
واقترحت نظرية أخرى أن نيمان قد يكون استخدم “ليزر صغير للغاية” يقوم “برسم خط من الأشعة فوق البنفسجية على لوح الشطرنج يكون مرئياً فقط من خلال اتصالات خاصة”.
أما نيمان، فكان له نظريته الخاصة، إذ قال في المقابلة التي تلت المباراة بأن كارلسن “كان يشعر بالإحباط لأنه يخسر أمام أحمق مثلي.
من الواضح أن الأمر محرج لبطل العالم أن يخسر أمامي. أشعر بالسوء تجاهه [آسف عليه]”.
وكان ما تبع ذلك أمراً يرقى إلى مستوى الجريمة الدرامية. تم التدقيق في تاريخ نيمان بشكل عنيف على الإنترنت وتم التمحيص في مبارياته ودراستها بشدة لتبيان العيوب والأنماط.
وفي سياق متصل، قام هيكارو ناكامورا وهو معلم دولي في الشطرنج والمصنف ثاني في العالم في وقت سابق واليوتيوبر الشهير في مجال الشطرنج بإعادة المباراة بين كارلسن ونيمان للنظر في الحركات التي لم يكن لها أي معنى. بعبارات أخرى، درس الحركات التي لعب الذكاء الاصطناعي وحده دوراً فيها.
وقال “يدعوني الأمر للشك فعلاً”.وكتب غريغ كينر وهو حكم في الاتحاد الدولي للشطرنج ومساعد المدير في نادي مارشال للشطرنج تحليلاً نشرته صحيفة “نيويورك تايمز” جاء فيه بأن تصنيف إيلو(Elo rating) (هي طريقة لحساب مستويات المهارة النسبية للاعبي الشطرنج) لدى نيمان والذي يرتكز على سجل لعب اللاعب ارتفع أكثر من 500 نقطة منذ يناير (كانون الثاني) 2021، واصفاً الأمر بأنه “ارتفاع صاروخي يتعذر على معظم الناس تصديق أنه ممكن”.
بكلمات أخرى، شكل هذا الصعود الصاروخي لنيمان سبباً لانتشار الشك لدى كثيرين.واتسعت الفضيحة على نحو أكبر عندما تبين أن نيمان، وفي مقابلة تطرق فيها إلى المباراة التي خاضها ضد كارلسن ودافع عن نفسه في وجه الاتهامات، أقر بأنه أقدم على الغش في مباريات عبر الإنترنت عندما كان في سن أصغر.
وقال في مقابلة مع نادي سانت لويس للشطرنج، “غششت في مباريات عشوائية على موقع (تشيس دوت كوم). تمت مواجهتي بالأمر، واعترفت بذلك وهو الخطأ الوحيد الكبير الذي ارتكبته في حياتي. أشعر بالخجل الشديد وأنا أفصح أمام العالم بذلك لأنني لا أريد حصول أي تشويه للحقيقة ولا انتشار للإشاعات. لم أغش أبداً في مباراة وجهاً لوجه. وعدا عن إقدامي على الغش عندما كنت في الثانية عشرة من عمري، فأنا لم أغش أبداً في بطولة جائزتها مالية”.
وتابع قائلاً “لتوضيح الأمر، كنت في السادسة عشرة وأعيش بمفردي في نيويورك في خضم جائحة كورونا وكنت مستعداً للقيام بأي شيء لرفع معدلي. أود أن يعرف الناس أنني أشعر بالأسف الشديد لارتكابي هذا الخطأ. أعرف أن لأفعالي تداعيات وأنا عانيته”.
وأضاف نيمان أنه سيلعب عارياً لكي يثبت براءته ضد الاتهامات التي تزعم أنه وضع أجهزة على جسمه.
وقال، “إذا أرادوا مني أن أخلع ملابسي بالكامل، فسأفعل ذلك. لا أبالي بالأمر، لأنني أعلم أنني بريء. تريدون مني أن ألعب في صندوق مغلق من دون أي نقل إلكتروني، لا يهمني. أنا هنا لأفوز وهذا هو هدفي بغض النظر عن أي أمر آخر”.ولم تتمكن “اندبندنت” من التواصل مع نيمان للحصول على تعليق منه.
وبعد يومين على تلك المقابلة، أعلن موقع “تشيس دوت كوم” في بيان أصدره بأنه حظر نيمان عن الموقع من دون الإدلاء بأي تفاصيل إضافية.ومع ذلك، استمرت الأحداث الدرامية، إذ التقى نيمان وكارلسن في مباراة أخرى، هذه المرة عبر الإنترنت في بطولة كأس الأجيال.
وبعد حركة واحدة، انسحب كارلسن من المباراة وأطفأ كاميرا حاسوبه. وقال المعلق، “أظن أنه تصريح أقوى وأكبر من التغريدة [أصدق أنباء من التغريدة]”.وهددت الضجة التي رافقت هذه الحادثة، بعرقلة مسيرة لاعب الشطرنج الشاب حتى قبل أن تبدأ بالفعل. مع ذلك، لم يتمكن أحد حتى الآن من تقديم أي دليل ملموس على وجود عملية الغش.
وبعد أيام من التكهنات، قال كريس بيرد كبير الحكام في كأس سينكفيلد، حيث بدأت الفضيحة، أن ما من دليل على حدوث الغش. وصرح بيرد في بيان بحسب ما نقلته وكالة “رويترز”، “رداً على الإشاعات المتداولة في عالم الشطرنج، في وسعي التأكيد أننا لا نملك حالياً أي دليل على قيام أي لاعب باللعب بشكل غير عادل في بطولة كأس سينكفيلد لعام 2022.”وفي هذا الإطار، أفادت صحيفة “نيويورك تايمز” بأنه تمت دعوته مجدداً للمشاركة في البطولة القادمة في النادي.
وفي التحليل الذي كتبه كينر للصحيفة التي تقدم ذكرها، أشار إلى تعليقات ليفون أرونيان وهو معلم شطرنج دولي أرمني لعب في البطولة نفسها ودافع عن نيمان في مقابلة أجريت معه بعد المباراة.
وقال، “أعتقد أن الأمر يحصل مراراً عندما يلعب اللاعبون الشبان على أفضل وجه. تساق في حقهم كثير من الاتهامات. يشعر كل زملائي بالذعر”.
ونشر موقع “تشيس بايز” (ChessBase) تحليل أكثر تعمقاً قام به البروفيسور كين ريغان الذي يعتبر “أعظم خبير في العالم في رصد الغش في الشطرنج” وحلل جميع مباريات نيمان على مدى العامين السابقين على الإنترنت وحضورياً.
وقال في حكمه الذي خلص فيه إلى أنه لم يغش، “لعب نيمان جيداً، ولكن ليس على نحو جيد جداً”.كان هذا الأمر ليشكل نهاية الجدل، ولكن كارلسن تطرق للمسألة مجدداً هذا الأسبوع في مقابلة.
وعندما سئل عن سبب انسحابه من المباراة الأخيرة ضد نيمان، أجاب، “للأسف، ليس بوسعي الحديث عن هذا الأمر، ولكن كما تعرفون، بوسع الأشخاص أن يستنتجوا بأنفسهم ما حصل ولا شك أنهم فعلوا بالتأكيد”.
ومن ثم أشار إلى أنه لن يستمر بالتحدث بالشيفرات [التلميح المشفر] لوقت طويل وقال، “آمل أن أتمكن من الإفصاح عن مزيد بعد انتهاء البطولة”.