أبعاد: كتب / كمال خلف
تقول حكاية من التراث اليوغسلافي ان ملكا كان له اذنان طويلتان كأذني الحمار، وكان يخفي هذه الخلقة عن بقية الرعية خجلا، ونصحه مستشارون من البطانة المقربة ان لا يظهر للشعب الا نادرا وان يضع تاجا كبيرا على رأسه حتى لا ينفضح السر. وهكذا ادارت البطانة البلاد والعباد بالظلم والفساد، والملك اسير عقدة الاذنين. وباسم الملك المختفي ارتكبت البطانة الموبقات ونهبت البلاد.
مات حلاق الملك وجيء بحلاق شاب وقد اعطي التعليمات بانه سيرى سرا خطيرا في رأس الملك وان عليه ان لا يبوح بهذا السر لاحد والا فسيقتل فورا.. دخل الحلاق وشاهد اذنا الملك فكتم دهشته واستمر في عمله. سأله الملك هل رأيت شيئا غريبا في رأسي قال الحلاق لا كل شيء طبيعي. أعجب الملك بجواب الحلاق وأحبه وطلب ان يأتيه دوما..
لكن الحلاق من شدة كتمانه للسر وخوفه من ان يبوح به لاحد مرض مرضا شديدا، وانتفخت بطنه فذهب الى الطبيب الذي عرف انه يكتم سرا، فنحصه ان يذهب الى الحقول ويحفر حفرة عميقه ثم يبوح فيها بالسر بصوت عال ثم يطمر الحفرة.. وبالفعل نفذ الحلاق ما طلبه الطبيب وصار كلما انتفخت بطنه يركض الى الحقول ويحفر حفرة ويقول فيها ما يريد. وما ان حل الربيع وانبتت الأرض اعواد القصب والعشب حتى صار يصدر عنها صوت الحلاق وهو ينادي اذنا الملك كأذني الحمار. وهبت الريح وحملت الصوت الى الناس والى القصر وانفضح السر بين العامة.. انهار الملك وامر بإحضار الحلاق وتنفيذ حكم الإعدام.. ولأنه كان يحب الحلاق قال له قبل الإعدام لماذا وشيت بي وفضحت سري.. فقال الحلاق يا مولاي الله اعطاك اذنين كبيرتين لأنك حاكم فمن خلالهما تسمع صوت الرعية وتهتم بمشكلاتهم لا ان تختفي وراء بطانة وتصم سمعك بتاج من الذهب والفولاذ.. طلب الحاكم وقف الإعدام وخرج الى الناس وقال لهم الله اعطاني اذنين كبيرتين كي اسمع صوتكم وانا أخطأت واختبأت وراء جدار عالية.. فهتف الشعب باسمه. وانكشف احتيال البطانة وانهارت منظومتهم الفاسدة..
تلك حكاية ليست للتسلية انها حكايتنا على امتداد جغرافيتنا الحزينة البائسة الخائفة من الحاضر والمستقبل، تلك حكاية حكام تحولوا لأشباه آلهة، وحال حاجز البطانة المنتفعة والفاسدة بينهم وبين الشعب.. وعاش الحاكم العربي في قصره العاجي محاطا بأسوار لا تخرقها صورة الواقع وتحيط بها الورود والمشاهد التي يرسمها المقربون لحال الوطن والشعب..
لو ان لكل حاكم عربي اذنان كبيرتان كما الملك في القصة، لكان ربما سمع اهات الناس من شظف العيش ومن الذل وانعدام القانون واهانة الكرامات والظلم.
تلك الدول المسماة عربية متلاصقة بجبن ترتجف من المستقبل، وتجتر ماض لا تعرف منه الا ما يزيد عبوديتها وتخلفها. مدن سوداء كاحلة يخنقها ليل بهيم، لا شيء فيها ابيض الا الدموع في عيون الصغار ورايات الاستسلام.
نخب سياسية تلعق احذية الغزاة، وتزخف كالصراصير امام السيد الأبيض، نخب إعلامية وثقافية يستأجرها المال الحرام، فتملأ الفضاء زعيقا و الجرائد تقيأ، تبصق في وجه الراي العام تزلفا ورياء، نخب فنية ساذجة تلهث خلف الاعطيات وصرة الدنانير يرميها حاكم مترف، ترقص على مسارح الجوع والفقر والتخلف والبؤس، تطل علينا بوجوه مطموسة بالوان الزيف لتقول كلاما ساذجا عن حياتها المترفة وتغني فوق توابيت الموت والقهر، نخب دينية تعمل خياطين للفتوى تفصل للحاكم سراويل دينية على قياس قفاه كي يظرط على الرعية ظرطة شرعية، و يفصلون للغزاة والطامعين فتاوى كي يدمروا بلدننا. سدنة المعبد اللصوص، متى ينزلون عن اكتاف البشر؟
شعوب بعضها يركب زوارق الموت للبحث عن الحياة ليجدها في ارض غريبة باردة او في قاع البحر وفي بطن الأسماك، وبعضها جالس على حطام دولة يربي اشباحا من العظام يسمها أطفالا، محاصر في سريره بالهم والاحزان، يصارع الحياة من اجل لا شيء. وبعضها سكران عمارات يسميها حضارة، مهووس في ساحة الطبل والزمر يتمايل في مهرجانات الترفيه التي يسميها حضارة وازدهار..
يالها من تراجيديا بلهاء.
لو ان الحاكم العربي اجرى عملية جراحية واستبدال اذانه باذان طويله، فربما سمع أصوات الازقة في المدن والنجوع سمع أصوات الشبابيك وخلف الأبواب.. سمع صوت الحزن الكامن من الصدور.. سمع صوت القبور المسماة اوطانا.
ليس الحلاق الا مواطنا في عالمنا العربي امام المسؤول في بلده لا يجد الا الحفر العميقة في الفيافي والقفار، ليقول فيها ما يجول في صدره، كي لا يموت بالسجون او يموت من القهر او يتهم بالخيانة.
ولا يجد لحظة صدق يقول فيها رأيه الحر عن اماله واحلامه في وطن يسوده العدل ويختفي فيه القراصنة وينتصر فيها الامل.