أبعاد – الكاتب: محيي الأشقر
مرةً، كتب أحد مراسلي صحيفة القبس الكويتية، وهو عراقي، في ذروة أيام الحرب العراقية الايرانية، تقريراً عن يوميات ما كان يحدث على جبهة معارك شرق دجلة، شاتماً ولاعناً قصب وبردي الأهوار (لأنهما) يعاندان إرادة العراقيين [اقرأ إرادة السلطة] في محاولات اقتلاعهما؛ كي تتيّسر وتسير العمليات العسكرية وتتواصل المقتلة!
ويومها كان لـ”تورغوت أوزال” رئيس وزراء تركيا آنذاك، أكثر من قول وتصريح، عن مستقبل علاقات تركيا مع العالم العربي وجيرانها، بينها: “سيأتي اليوم الذي نبادل به برميل الماء ببرميل النفط!”.
كان ذلك بين 1985- 1986، ويومها لم يكن هناك إنترنيت أو مواقع تواصل ولا حياء.. وكانت الكتابة هي واحدة من تعبيرات مناهضة النظام وأعماله- كما كنا نعتقد ونحاول- وسط تضامن ساحق وثابت من قبل الكثير من الأوساط الثقافية والإعلامية في العالم العربي والإسلامي مع عالم صدام، وصمت جائر عما كان يتعرض له العراقيون وهم خلف أسيجة الرعب والحرب والعوز، وما تبقى يضربون في أراضي الشتات والمنافي.
وفي الأيام الحالية البغيضة من تاريخ العراق، يبدو صمت وتجاهل (الحياة الثقافية العراقية) عن جريمة تجفيف عصب حياة الناس وحرمان مياه نهري دجلة والفرات مما يغذيها (بسبب من سياسات وإجراءات تركيا وإيران المخطط لها والحاقدة، ومعها المواقف الكسيفة والباهتة لمايسمى بالدولة العراقية )- وتالياً مما يُحيي ويغذي عموم أراضي وبحيرات وسدود وأهوار العراق، شبيهاً ببشاعة وتقصير وموت الحياة السياسية العراقية.
فـ(السقافة) مشغولة بأوجاع النسق وحنان السرد وحموضة مابعد الحداثة، مثلما السياسة وهي تتبارك وتتبارى بالأغلبية الغابرة أو التوافق النافق وانسداد شرايين الأوزان الانتخابية، وانفتاح الرغبة والوحام النفطي وضرورة الغرغرة بمحاليل السيادة وتوثيق عُرّى الهراء مع دول الجوار.
كان لبيئة تلك المنطقة في جنوب العراق وأهواره، يوميات حياة أهلها وجماليات عوالمها الطبيعية الباذخة، أكبر الأثر في ظهور مئات من الدراسات والأشغال والأشرطة والأعمال الإبداعية الساحرة.. في حقول دراسات الأنثربولوجيا والأعمال التشكيلية والنصوص الشعرية والقصصية والروائية وأدب رحلات الأوربيين والأفلام الوثائقية.
إن تهاون وصمت وتعالي من بمقدورهم القول والكتابة -جماعة التفكيك والحفر وتحليل نظام الخطاب- يعني تثمين عمل وسلوكيات البائسين والفاشلين ممن يمسكون بأمر العراق وبحلفاء الخراب وصنّاع الضياع.
إن أشغال ومساهمات طه باقر الرائدة وشاكر مصطفى سليم (اطروحته في كتاب الجبايش) ومظفر النواب (عموم نصوصه في المحكية)، وفهد الأسدي (طيور السماء ومعمرة علي) وقاسم حول (فيلم الأهوار) وعبد الأمير الصراف وحسن عبد علوان (في موسيقى ولوحات ورسوم الفيلم ذاته)، ووليفريد ثيسجر (عرب الأهوار) ومحمد خضير (بعض نصوصه في درجة 45 مئوي)، وحيدر حيدر (في رواية وليمة لأعشاب البحر)، وكافن يونغ (العودة للاهوار).. من دون نسيان الكثير ثم الكثير من الأشغال والأعمال الجمالية الفاتنة، منها كنوز أصوات مقرئي ورواديد المراثي الحسينية ومناجم أطوار الغناء والمغنيين (من قبيل خضير مفطورة وناصر حكيم وحضيري ابو عزيز وداخل حسن وجبار ونيسة وگرير وجويسم وسيد محمد..)، ثم أشغال رواد الفن التشكيلي من الأساتذة وتلامذتهم في زياراتهم الميدانية وغيرها، تضع من يتحدثون باسم الكتابة والحياة والجمال تحت مسؤولية قول الحقيقة، الأخيرة التي يتفّه معناها كل لحظة، كلما طال زمن الصمت..، مع دوام وجود مايسمى بالتجمعات الثقافية والاتحادات ومؤسسات المجتمع المدني.. المشغولة بتلك الندوة وذاك الإيفاد وهذه المنحة الدولية
احتجاجات تشرين بلافتاتها ووثائقها.. خلت هي الأخرى من الإشارة لهذه المحنة؛ ليش؟
هل العراق هو: بساتين نخيل ودجلة والفرات وسومر وبابل.. وأمكنة تحتفي بها اليونسكو وأضرحة وبقية ماضي وذكريات، أم هو فكرة في طريقها إلى التذرّر والزوال، أم هو مكان للإيجار، ينزل فيه من ينزل ويغادر من يغادر؟
وهل هذا الممدد في الخلاء بعد أن جُرّد من كل شيء، ماله وملبسه وما كان بحوزته من زاد وعلى ثغره من كلام وفي عنقه من عطر وعلى رأسه وفي ثناياه من مهابة وجلال وغيرة وبسالة وكل ذلك الحب وكل تلك الحياة؛ هل هذا هو العراق؟